فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.سورة النحل:

.تفسير الآية رقم (1):

{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {أتى أمرُ الله} أي: البعث والحساب. وعبّر بالماضي؛ لتحقق وقوعه، أو: ثبت أمره وقضاؤه، وقد جفّ القلم بما يكون لا عن سؤال واستعجال، وتدبير من الخلق، ولو كان كذلك لنافى انفراده بتدبير ملكه، ولذلك نزّه نفسه بقوله: {سبحانه وتعالى عما يشركون}. أو: إهلاك الله إياهم يوم بدر، وكانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول من قيام الساعة، وإهلاكهم ونصره عليهم، استهزاء وتكذيباً؛ ولذلك قال: {فلا تستعجلوه}، والمعنى: أن الأمر الموعود به بمنزلة الماضي، لتحقّق وقوعه من حيث إنه واجب الوقوع؛ فلا تستعجلوا وقوعه، فإنه لا خير لكم فيه، ولا خلاص لكم منه.
ورُوِيَ لمّا نزل قوله: {أتى أمر الله}، وثب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائماً، ورفع الناس رؤوسهم، فلما قال: {فلا تستعجلوه}، سكن. وكان المشركون يقولون: إن صح ما يقول محمد من قيام الساعة، فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا، فقال تعالى: {سبحانه وتعالى عما يشركون} أي: تنزه وجلَّ عن أن يكون له شريك، فيدفع ما أراد بهم. اهـ.
وقرأ الأخوان بالخطاب، على وفق قوله: {فلا تستعجلوه}، والباقون بالغيب، على تلوين الخطاب، أو على أن الخطاب للمؤمنين، أي: أتى أمر الله أيها المؤمنون فلا تستعجلوه، سبحانه وتعالى عما يشركه به المشركون. أو: لهم ولغيرهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا أشرق نورُ اليقين في صميم القلوب تحقق وقوع ما وعد الله به من أمر الغيوب، فصار الماضي آتياً، والمستقبل واقعًا. وفي الحكم: (لو أشرق نور اليقين في قلبك، لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت الدنيا وكسفةُ الفناء ظاهرةٌ عليها). وكذلك المقادير المستقبلة والمواعيد الغيبية، كلها عند أهل اليقين محققة الوقوع، واجبة الحصول، ينتظرون وقوعها في مواقيتها، شيئًا فشيئًا، ويتلقونها بالمعرفة والأدب؛ فإن كانت جلالية فبالرضى والتسليم، وإن كانت جمالية فبالحمد والشكر، هكذا نظرهم دائمًا إلى ما يبرز من عنصر القدرة، ليس لهم وقت دون ما هم فيه، ولا أمل دون ما أقامهم الحق تعالى فيه، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار، ولا يستعجلون ما تأخر وقوعه من أقداره، ولا يشركون مع الله في تدبيره واختياره. قد هجم عليهم اليقين، فهم، في عموم أوقاتهم، مستغرقون في شهود المحبوب، غائبون عن كل مرغوب ومطلوب، سوى شهود وجه المحبوب، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. آمين.

.تفسير الآية رقم (2):

{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)}
قلت: {أن أنذروا}: مفسرة، بمعنى أي؛ لأن الوحي فيه معنى القول. أو مصدرية في موضع الجر، بدلاً من الروح، أو النصب بنزع الخافض، أو مخففة من الثقيلة. وقوله: {لا إله إلا أنا} جرى على المعنى، ولم يجر على اللفظ، وإلا لقال: لا إله إلا الله. انظر ابن عطية. قال المحشى الفاسي: وسر ذلك هنا: التصريح بالمقصود، وأن الإله الواحد هو المتكلم لا غيره، كما قيل في قوله: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النّحل: 51]، أي: ولم يقل: فإياه فارهبوا، بل نقل الكلام من الغيبة إلى التكلم؛ مبالغة في الترهيب، وتصريحًا بالمقصود، كأنه قال: فأنا ذلك الإله الواحد، فإياي فارهبون لا غير. اهـ.
قلت: وكأنه قال هنا: يُنزل الملائكةَ بالوحي أن أَعلِموا أنه لا يُعبد إلا إله واحد، وأنا ذلك الواحد.
يقول الحقّ جلّ جلاله: تحقيقًا لِمَا وعدهم به، وأن ذلك الوعد، مع دنوه وقربه بالوحي، فلا خلف فيه، فقال: {يُنَزِّلُ الملائكةَ} أي: جبريل، جمعه؛ تعظيمًا، أو: لأنه قد ينزل معه غيره من الملائكة، فيحضرون الوحي؛ حُرّسا له. أو: لأنه قد ينزل بالوحي غيره من الملائكة، كما في صحيح مسلم: «إن سورة الحمد نزل بها ملك لم ينزل إلى الأرض قبل ذلك» وقال عليه الصلاة والسلام: «إن إسرافيل وُكِّلَ بي في ثلاث سنين، فكان يأتيني بالكلمة والكلمتين، ثم كان جبريل يأتيني بالقرآن في كل وقت» ورُوي أن خالد بن سنان كان نبيًا، وكان يأتيه بالوحي مالك خازن النار، وكان بعد عيسى عليه السلام، ولم يبق في النبوة إلا عشرين يومًا، ثم مات، فلقصر مدته لم يُعد نبيًا، بعد عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت فترة خمسمائة عام. وذكر ابن العربي أن ذا القرنين كان ينزل عليه ملك، يقال له: رفائيل، فكان يلقي إليه الوحي، ويطوي له الأرض. هكذا نقل الشطيبي عنه في اللباب، فانظره.
وقوله: {بالروح} أي: بالوحي، أو القرآن؛ فإنه سبب حياة القلوب والأرواح الميتة بالجهل والحجاب، أو سبب حياة الدين بعد موته واندراسه بالكفر؛ فإن الوحي يقوم في الدين مقام الروح من الجسد. يُنزل ذلك {من أمره} أي: من أجل أمره وبيان شأنه، أو بأمره وإذنه، {على مَن يشاء من عباده} أن يصطفيه للرسالة، قائلاً لهم: {أنْ أنذروا}: خوفوا أهل الشرك، أو أعْلِموا عبادي {أنه} أي: الأمر والشأن، {لا إله إلا أنا فاتقون}؛ بترك الكفر والمعاصي، أي: اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية، بأن تُوحدوه، وتطيعوه فيما أمر به.
قال البيضاوي: والآية تدل على أن نزول الوحي بواسطة الملائكة، وأن حاصله: التنبيه على التوحيد، الذي هو القوة العلمية، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمالات القوة العملية.
وأن النبوة عطائية- أي: لا كسبية-، والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته، من حيث إنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه، على وفق الحكمة والمصلحة، ولو كان له شريك لقَدَرَ على ذلك، فيلزم التمانع. اهـ.
الإشارة: قوله تعالى: {بالروح}: قال الورتجبي: الوحي الإلهي، سماه بالروح؛ لأن كلامه صدر من ذاته، وهو حياة قلوب الصديقين من المكلَّمين والمحدَّثين، وهو سبب حياة قلوب المؤمنين، يحييهم بعلمه من موت الجهالة. اهـ.
وقال القشيري في قوله: {على مَن يشاء من عباده}: على الأنبياء بالوحي والرسالة، وعلى أسرار أرباب التوحيد، وهم المُحَدَّثُون بالتعريف والعلم. فالتعريف للأولياء من حيث الإلهام والخواطر، أي: الواردات. وإنزال الملائكة على قلوبهم غير ممنوعٍ، ولكنهم لا يُؤْمَرُون أن يتكلموا بذلك، ولا يَحْمِلون الرسالة إلى الخلق. اهـ.
قلت: وكأنه ينظر إلى قوله- عليه الصلاة والسلام-: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»، فهم يشاركون الأنبياء في الوحي الإلهامي، ولا يبلغون ذلك إلا لمن صدقهم وتبعهم في طريقهم. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (3- 9):

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)}
قلت: {والأنعام}: منصوب بمحذوف، يفسره: {خَلَقَها}، أو معطوف على {الإنسان} و{خلقها لكم}: بيان لما خُلقتُ لأجله، وما بعده تفصيل له. و{منها تأكلون}: إنما قدَّم المعمول؛ للمحافظة على رؤوس الآي، أو: لأن الأكل منها هو المعتمد عليه في المعاش، وأما الأكل من غيرها من سائر الحيوانات المأكولات فعلى سبيل التداوي والتفكه. قاله البيضاوي. قلت: ولعله، عند مالك، للاختصاص، أي: منها تأكلون لا من غيرها؛ إذ لا يؤكل عنده غيرها من البهائم الإنسية.
وقوله: {لكم}: يحتمل أن يتعلق بما قبلها أو بما بعدها، ويختلف الوقف باختلاف ذلك. {إلا بشق}: فيه لغتان: الكسر والفتح، بمعنى التعب والكلفة، وقيل: المفتوح مصدر شَقَّ الأمرُ عليه، أي: صَعُبَ، والمكسور بمعنى: النصف، كأنه ذهب نصف قُوَّتِهِ بالتعب. {والخيل}: عطف على {الأنعام}. و{زينة}: مفعول من أجله، عطف على موضع {لتركبوها}: أي: للركوب والزينة، أو مفعول مطلق، أي: لتتزينوا بها زينة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {خلق السماوات والأرض}: أوجدهما {بالحق} أي: ملتبسًا بالحق؛ لتدل على وحدانية الحق، وكمال قدرته وباهر حكمته، حيث أوجدهما على مقدار مخصوص، وشكل بديع، وأوضاع مختلفة، وهيئات متعددة. أو: خلقهما بقضائه وتدبيره الحق، لا بمشاركةِ وتدبيرِ أحد معه، ولا بمعاونة شريك ولا ظهير، ولذلك نزه نفسه بقوله: {تعالى عمّا يشركون}، كما نزه نفسه، ابتداءً، لَمَّا نفَى الاستعجال؛ لأنه من تدبير الخلق أيضًا والصدور عن رأيهم، وفي معناه: تنزيل الوحي على ما يشاء لا على ما يشاء غيره؛ لانفراده أيضًا في ملكه. وفي إبرازه ذلك، على ما يخالف آراء الخلق، أدل دليل على وحدانيته في ملكه، وإنما وضع كل شيء ودبره؛ دلالة على وحدانيته وهدايته لخلقه إليه.
ثم شفع بخلق الإنسان فقال: {خلق الإنسان} أي: جنسه {من نُطفة}: من ماء مهين يخرج من مكان مهين، {فإذا هو خصيم مبين}: مجادل، كثير الجدل والخصام، مبين لحجته، أو: خصيم: مكافح لخالقه، قائل: {مَن يحيي العظام وهي رميم}. رُوي أن أُبيّ بن خَلَف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بِعَظْمٍ رَمِيم، فقال: يا محمد، أترَى الله يُحيِي هذا بعد ما قد رمَّ؟ فقال: «نعم» فنزلت. فعلى الأول: تكون الآية عامة لكل إنسان، وعلى الثاني: خاصة بالكافر. والأول أظهر.
ولمَّا ذكر نعمة الإيجاد ذكر نعمة الإمداد، فقال: {والأنعامَ} وهي: الإبل والبقر والغنم، {خلقها}: أوجدها {لكم فيها دِفءٌ}؛ ما يُدْفأُ به فيقي البرد، يعني: ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب، {و} لكم فيها أيضًا {منافعُ} أُخر؛ كنسلها وظهورها. وإنما عبَّر بالمنافع؛ ليتناول عِوضها. {ومنها تأكلون} أي: تأكلون ما يؤكل منها؛ من اللحوم والشحوم والألبان.
{ولكم فيها جَمَالٌ} أي: زينة وبهجة {حين تُريحون}؛ تردونها من مراعيها إلى مِرَاحِها بالعشي، {وحين تسرحون}؛ تخرجونها إلى المرعى بالغداة؛ فإن الأفنية والمشارعَ والطرق تتزين بها في الذهاب والرواح، ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها. وقدَّم الإراحة؛ لأن الجمال فيها أظهر؛ لأنها تقبل ملأى البطون، حاملة الضروع، ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها.
{وتحمل أثقالكم}: أحمالكم عليها من الأمتعة وغيرها {إلى بلدٍ} بعيد، {لم تكونوا بالغيه} عليها، فضلاً عن أن تحملوها على ظهوركم، {إلا بِشِقِّ الأنفس}؛ إلا بكلفة ومشقة فديحة، أو: إلا بذهاب شِقها، أي: نصف قوتها من التعب. {إن ربكم لرؤوف رحيم}؛ حيث رحمكم بخلقها وذللها للحمل، والركوب عليها، وأنعم عليكم بالكل من لحومها وألبانها.
{و} خلق لكم {الخيلَ والبغال والحميرَ لتركبوها}، {و} تتزينوا بها {زينةً}، أو للركوب والزينة. قال البيضاوي: وتغيير النظم- أي: حيث لم يقل: وللزينة-؛ لأن الزينة بفعل الخالق، والركوب من فعل المخلوق- أي: باعتبار الحكمة-، ولأن المقصود خلقها للركوب، وأما التزين بها فحاصل بالعَرَضِ. وقرئ بغير واو، فيحتمل أن يكون علة لركوبها، أو مصدرًا في موضع الحال من الضمير، أي: متزينين، أو متزينًا بها. واستُدِلَّ به على حرمة لحومها، ولا دليل فيه؛ إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يُقصد منه، غالبًا، ألا يقصد منه غيره أصلاً، ويدل عليه أن الآية مكية. وعامة المفسرين والمحدثين أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر. اهـ. {ويخلق ما لا تعلمون} مما لا يُحيط البشرُ بعلمها؛ من عجائب المخلوقات، وضروب المصنوعات، مما يؤكل ومما لا يؤكل، وما خلق في الجنة والنار، مما لا يخطر على قلب بشر.
{وعلى الله قصدُ السبيل} أي: وعلى الله بيان السبيل القصد، أي: الطريق الموصل إلى المقصود. أو: على الله تقويم طريق الهدى؛ بنصب الأدلة وبعث الرسل، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: السبيل القصد، أي: القاصد المستقيم الموصل إلى المطلوب؛ كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه. والمراد من السبيل: الجنس، ولذلك أضاف إليه المقصد، وقال: {ومنها جائرٌ} عن القصد، أو عن الله، كطريق اليهود والنصارى وغيرهم. والسبيل بمعنى الطريق، يُذكر ويؤنث، وأُنِّثَ هنا. وتغيير الأسلوب- أي: حيث لم يقل: قصد السبيل والجائر-؛ لأنه ليس بحق على الله أن يبين طريق الضلالة، ولأن المقصود، بالأصالة، بيان سبيله، وتقسيمُ السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. {ولو شاء لهداكم أجمعين} أي: ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل، هداية مستلزمة للاهتداء. قاله البيضاوي.
الإشارة: هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نُصبت للآدمي، وخلقت من أجله، السماوات تُظله، والأرض تُقله، والحيوانات تخدمه وتنفعه، يتصرف فيها؛ خليفة عن الله في ملكه.
فالواجب عليه شكر هذه النعم، وألا يقف معها، ويشتغل بها عن خدمة خالقها. يقول الحق تعالى، في بعض كلامه بلسان الحال أو المقال: «يا ابنَ آدم، خَلَقْتُ الأَشياءَ مِن أَجْلِكَ، وخَلَقْتُكَ مِنْ أجِلْي، فَلا تَشْتَغِل بما خُلِق لأجلك عَمَّا خُلِقْت لأجْله» والواجب عليه أيضًا من طريق الخصوص: ألا يقف مع حس أجرامها، دون النفوذ إلى أسرار معاني خالقها ومُظهرها؛ لئلا يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني، المحيط بالأواني، والمفني لها، بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المُكوِّن. وبالله التوفيق.
وقوله: {وعلى الله قصد السبيل}: اعلم أن الحق- جلّ جلاله- بيَّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسي والفوز برضوانه، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه، وأرسل الرسل ببيان الطريقين. فوكل ببيان الأولى العلماء، ووكل ببيان الثانية الأولياء. فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح، وهو النعيم الأكبر؛ قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ} [التّوبَة: 72]. فالرضوان على قسمين: قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدْل الحجاب، وهم أهل الشرائع، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب، وهم أهل الحقائق، وهم المقربون، نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.

.تفسير الآيات (10- 16):

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)}
قلت: {لكم منه شراب}: يحتمل أن يتعلق بأنزل، أو يكون في موضع خبر {شراب}، أو صفة لماء؛ و{مواخر}: جمع ماخرة، يقال: مخرت السفينة الماء مخرًا: شقّته، وقيل: المخر: صوت جَرْيِ الفلك في البحر من هبوب الريح. وقيل: معناه: تجيء وتذهب بريح واحدة. و{لتبتغوا}: عطف على {لتأكلوا}، و{أن تميد}: مفعول من أجله، أي: كراهة أن تميد بكم. و{أنهارًا وسُبلاً}: مفعول بمحذوف، أي: وخلق أو وجعل أنهارًا، وقيل: معطوف على {رواسي}؛ لأن ألقى، فيه معنى الجعل، و{علامات}: عطف على {أنهارًا وسبلاً}، أو نصب على المصدر، أي: ألقى ذلك؛ لعلكم تعتبرون، وعلامات دالة على وحدانيته.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {هو الذي أنزل من السماء} أي: السحاب، أو جانب السماء، {ماء}: مطراً {لكم منه شراب} تشربونه بلا واسطة، أو بواسطة العيون والأنهار والآبار؛ لأنه يُحبس فيها، ثم يشرب منها، لقوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأَرْضِ} [الزُّمَر: 21]، وقوله: {فَأَسْكَنَّاهُ في الأَرْضِ} [المؤمنون: 18]، {ومنه شجرٌ} أي: ومنه يكون شجر، يعني: الشجر الذي ترعاه المواشي، وقيل: كل ما نبت على الأرض فهو شجر، {فيه تُسِيمُون}: ترعون مواشيكم، من أسام الماشية: رعاها، وأصلها: السومة، التي هي العلامة؛ لأنها تؤثر بالرعي علامات.
{يُنبتُ لكم به الرزعَ} وقرأ أبو بكر بالنون؛ على التفخيم، {والزيتونَ والنخيلَ والأعناب ومن كل الثمرات} أي: ومن بعض كل الثمرات؛ إِذْ لم ينبت في الأرض كل ما يمكن من الثمار. قال البيضاوي: ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه؛ لأنه سيصير غذاءً حيوانيًّا هو أشرف الأغذية- يعني اللحم-، ومن هذا: تقديم الزرع، والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها. اهـ.
{إن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون}، فيستدلون على وجود الصانع وباهر قدرته، فإن من تأمل الحبة تقع في الأرض يابسة، ويصل إليها نداوة تنفذ فيها، فينشق أعلاها، ويخرج منه ساق الشجر، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها، ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار، والأكمام والثمار، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطبائع، مع اتحاد المواد، عَلِمَ أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار، مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد، ولعل وصل الآية به؛ لذلك. قاله البيضاوي باختصار.
{وسخَّر لكم الليلَ والنهارَ والشمس والقمرَ والنجومَ}؛ بأن هيأها لمنافعكم، {مسخراتٍ بأمره}، أي: مذللات لما يريد منها، وهو حال من الجميع، أي: نفعكم بها حال كونها مسخرات لله، منقادة لحكمه، أو لما خلقن له، {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} أي: لأهل العقول السليمة الصافية من ظلمة الغفلة والشهوات، وإنما جمع هنا، دون ما قبله وما بعده؛ لأن الأولى راجعة إلى إنزال المطر، وهو متحد، والثالثة راجعة إلى ما ذرأ في الأرض، وهو متحد في الجنس والهيئة، بخلاف العوالم العلوية، فإنها مختلفة في الجنس والهيئة.
وقال البيضاوي: جمع الآية وذكر العقل؛ لأنها تتضمن أنواعًا من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة، غير مُحْوِجَةٍ إلى استيفاء فكر، كأحوال النبات. اهـ.
{وما ذرأ} أي: وسخر لكم ما ذرأ، فهو عطف على الليل، أي: سخر لكم ما خلق لكم في الأرض من حيوانات ونبات، {مختلفاً ألوانه}؛ أبيض وأسود، أحمر وأصفر، مع اتحاد المادة، فالماء واحد والزهر ألوان، {إن في ذلك لآية لقوم يذّكرون}؛ يتذكرون أن اختلافها في الألوان والطبائع، والهيئات والمناظر، ليس إلا بصنع صانع حكيم.
{وهو الذي سخَّر البحرَ}: ذلله بحيث هيأه للتمكن من الانتفاع به؛ بالركوب فيه، والاصطياد، والغوص، {لتأكلوا منه لحمًا طريًّا} هو السمك، ووصفة بالطراوة؛ لأنه أرطب اللحوم، فيسرع إليه الفساد، فيسارع إلى أكله طريًّا، ولإظهار قدرته في خلقه؛ عذبًا طريًّا في ماء زُعاق أُجاج، واحْتَج به مالك على أن من حلف ألا يأكل لحمًا حنث بأكل السمك، وأجيب بأن مبني الأيمان على العُرف، وهو لا يُفهم منه عند الإطلاق؛ ألا ترى أن الله سمى الكافر دابة، ولا يحنث من حلف ألا يركب دابة بركوبه. قاله البيضاوي. ويجاب بالاحتياط؛ فالحنث يقع بأدنى شيء، بخلاف البِر، لا يقع إلا بأتم الأشياء.
{وتستخرجوا منه حِلْيةً}؛ كاللؤلؤ والمرجان، {تلْبسونها}؛ يلبسها نساؤكم، وأسند اللباس إليهم؛ لأن لباس النساء تزين للرجال، فكأنه مقصودٌ لهم، {وترى الفلك}: السفن {مواخر فيه}؛ جواري فيه تمخر الماء، أي: تشقه، أو تُصوت من هبوب الريح، {ولتبتغوا من فضله}: من سعة رزقه؛ بركوبه للتجارة، أو: وترى الفلك جواري فيه؛ لتركبوها، ولتبتغوا من سعة رزقه. قال ابن عطية: فيه إباحة ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح. اهـ. {ولعلكم تشكرون} أي: تعرفون نعم الله فتقوموا بشكرها. ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر؛ لأنه أقوى في باب الإنعام؛ من حيث جعل المهالك سببًا للانتفاع، وتحصيل المعاش. قاله البيضاوي.
{وألقى في الأرض رواسي}؛ جبالاً رواسي أرست الأرض؛ كراهة {أن تميد بكم}؛ تميل وتضطرب؛ لأن الأرض قبل أن تُخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة، وكان من حقها أن تتحرك كالسفينة على البحر، فلما خُلقت الجبال تقاومت جوانبها؛ بثقلها نحو المركز، فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة. وقيل: لما خلق الله الأرض جعلت تمور- أي: تتحرك- فقالت الملائكة: ما يستقر أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرْسيَتْ بالجبال. {وأنهارًا} أي: وجعل فيها أنهارًا تطرد؛ لسقي الناس والبهائم، وسائر المنافع، وذكره بعد الجبال؛ لأن الغالب انفجارها منها، {وسُبلاً} أي: وجعل فيها طُرقًا {لعلكم تهتدون} لمقاصدكم، أو لمعرفة ربكم، بالنظر في دلالة هذه المصنوعات المتقدمة، على صانعها.
{و} جعل فيها {علاماتٍ}: معالم يَسْتَدِلُّ بها السابلة على معرفة الطرق؛ من الجبال، والمناهل، والرياح، وغير ذلك، {وبالنجم هم يهتدون} إلى الطرق بالليل، في البراري والبحار، والمراد بالنجم: الجنس، بدليل قراءة: {وبالنُّجُمِ}؛ بضمتين؛ على الجمع.
وقيل: المراد: الثريا، والفرقدان وبنات نعش، والجَدْي. والضمير لقريش؛ لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة، مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب، وتقديم النجم، وإقحام الضمير؛ للتخصيص، كأنه قيل: وبالنجم خصوصًا، هؤلاء خصوصًا يهتدون، يعني: قريشًا، فالاعتبار بذلك، والشكر عليهم ألزم لهم وأوجب عليهم. اهـ. وأصله للزمخشري.
الإشارة: هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء، أي: علمًا لدنيًا تحيا به القلوب، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب، خمرة تحيا بها الأرواح، وتغيب عن حضرة الأشباح، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل، تثمر بالأذواق، فيه تسيمون، أي: في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم، فمن وقف مع حلاوة العمل، أو المقامات أو الكرامات، بقي محجوبًا عن ربه، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله:
وَراعِها وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ ** وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم

وقال في الحكم: (ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار).
وقال الششتري:
وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما ** تبعد من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا

يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض، ونهار البسط؛ لتسكنوا فيه؛ لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا، ولتبتغوا من فضله؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء، فتشرق حينئذ شمس العرفان، ويستنير قمر الإيمان، وتطلع نجوم العلم، كل مسخر في محله، لا يستتر أحد بنور غيره، وهذا مقام أهل التمكين، يستعملون كل شيء في محله. وما ذرأ لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة، وهو الذي سخر بحر المعاني؛ لتأكلوا منه لحمًا طريًا؛ علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.
وترى الفلك، أي: سفن الفكرة، فيه مواخر؛ عائمة في بحر الوحدة، بين أنوار الملكوت وأسرار الجَبروت؛ لتبتغوا من فضله، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته، ولعلكم تشكرون، فتقيدوا هذه النعم الجسام؛ لئلا تزول. وألقى في أرض البشرية جبال العقول؛ لئلا يلعب بها ريحُ الهوى، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام، ثم إلى قمر توحيد البرهان، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.